اشرف محمدين يكتب:-استهلاك المشاعر مع من لا يستحق – أكبر جريمة في حق النفس


في حياة كل إنسان مساحة مقدّسة من المشاعر، تلك الطاقة النقية التي تُولد معه وترافقه في رحلته، فتكون وقود الحب، والدافع للعطاء، والملاذ في لحظات الوحدة. هذه المساحة ليست مجرد حالة عاطفية عابرة، بل هي جزء أصيل من تكوينه الإنساني، تُحدد طريقة نظرته للعالم، وتشكّل علاقاته مع الآخرين، بل وتُعطي لحياته معنى ودفئًا. لكن حين تُستهلك هذه المشاعر مع من لا يستحقها، يتحول النقاء إلى نزيف، والحب إلى استنزاف، وتصبح النفس مثقلة بجراح لا تُرى، لكنها أعمق من كل الجراح.
إن استهلاك المشاعر مع من لا يستحق ليس مجرد خطأ عاطفي عابر، بل هو أكبر جريمة في حق النفس. لأنه ببساطة يسرق من الإنسان أجمل ما فيه: قلبه. فالمشاعر ليست بلا حدود، وليست سلعة قابلة للتعويض، بل هي رصيد إنساني ثمين، كلما أُهدر مع غير أهله، كلما خسر الإنسان قطعة من سلامه الداخلي. إنها كرصيد مالي في بنك الحياة، إذا استُنزف بلا وعي ولا حساب، وجد صاحبه نفسه في النهاية مفلسًا من الداخل.
المؤلم أن من لا يستحق، لا يقدّر، ولا يحفظ، ولا يعترف بجميل. هو يأخذ دون أن يعطي، ويستهلك دون أن يعيد التوازن، فيجعل الطرف الآخر دائمًا في موقع الخاسر. وهنا تتحول العلاقة من كونها مشاركة إلى معادلة غير عادلة، طرف يُعطي حتى يُنهك، وطرف يستقبل حتى يُشبع أنانيته. هذه العلاقات في ظاهرها حب، لكنها في حقيقتها أقرب إلى الاستغلال العاطفي، حيث يُصبح القلب الضحية الأولى والأخيرة.
أخطر ما في هذه الجريمة أنها قد تغيّر الإنسان من الداخل. فالذي يستهلك مشاعره بلا مقابل قد يفقد ثقته بالحب، أو يتعلّم أن يغلق قلبه، أو يعوّد نفسه على قسوة لم تكن من طبعه. وربما يبالغ البعض في حماية أنفسهم بعد تجربة كهذه، فيغلقون أبوابهم أمام كل محاولات الحب الصادق لاحقًا، فيعيشون نصف حياة، بلا دفء ولا مشاركة. ولعل هذه الخسارة أعظم من خسارة أي علاقة، لأنها خسارة للنقاء الإنساني ذاته.
وإذا تأملنا الأمر بعمق، نجد أن الجريمة ليست فقط في إهدار المشاعر، بل في ظلم النفس. فالإنسان الذي يرضى أن يبقى في علاقة تستنزفه، كمن يوقّع بإرادته على حكم قاسٍ بالسجن في غرفة مظلمة، بينما المفاتيح في يده. إنه يُقيّد قلبه وهو حر، ويُعذّب نفسه وهو قادر على النجاة. وهذا الظلم للنفس لا يقل قسوة عن أي ظلم خارجي، بل قد يكون أشد لأنه صادر من الداخل.
الحب الحقيقي، على العكس تمامًا، يردّ على العطاء بعطاء، وعلى الإخلاص باحتواء، وعلى التضحية بتقدير. الحب لا يسرق، بل يضيف. لا يستنزف، بل يُحيي. أما الاستنزاف فهو الوجه الآخر للحب الزائف، الذي يبرق في البداية لكنه يترك رمادًا في النهاية. لذلك كان الوعي هنا هو خط الدفاع الأول عن القلب، فالعاطفة وحدها لا تكفي لبناء علاقة، بل تحتاج إلى عقل يوازن، وحدس يُميّز، وحكمة تعرف متى تُكمل الطريق ومتى تتوقف.
قد يقول البعض إن الحب يستحق المخاطرة، وإن التجارب تُعلّم. هذا صحيح، لكن التعلم شيء، والاستنزاف المستمر شيء آخر. التجارب تُضيف للنفس، تمنحها خبرة ورؤية أوسع، أما الاستنزاف فيسرق منها، يتركها خاوية بلا طاقة ولا أمل. والحكمة الحقيقية هي أن نُفرّق بين من يستحق أن نُهدر له وقتنا ومشاعرنا وأيامنا، وبين من يجعلنا نستهلك أنفسنا بلا مقابل
ومن هنا تأتي أهمية أن نحب أنفسنا أولًا. أن نعي أن الحفاظ على قلوبنا ليس أنانية، بل احترام لنفس وهبها الله لنا. أن ندرك أن المشاعر ليست مجرد كلمات أو لحظات، بل هي استثمار طويل في إنسان آخر، فإذا لم يكن أمينًا على هذا الاستثمار، فلا معنى لإضاعته. والإنسان الذي يُهدر مشاعره في غير محلها، كمن يزرع في أرض قاحلة، لن يحصد سوى الخيبة والتعب
إن أعظم قوة يمكن أن يمتلكها أي إنسان، هي أن يعرف قيمته. أن يدرك أن قلبه ليس متاحًا للجميع، وأن مشاعره ليست طعامًا يُوزّع على موائد الغرباء. هذه القوة تمنحه القدرة على الاختيار، على وضع الحدود، وعلى قول “لا” في وجه من يريد أن يأخذ دون أن يعطي
في النهاية، استهلاك المشاعر مع من لا يستحق ليس مجرد جريمة في حق النفس، بل هو درس قاسٍ، يدفعنا إلى أن نُعيد ترتيب أولوياتنا، ونُراجع حساباتنا، ونفهم أن من لا يصون مشاعرنا لا يستحق أن يكون جزءًا من قلوبنا. فالحب الذي لا يرد بالحب ليس حبًا، والعطاء الذي لا يُقابل بالوفاء ليس عطاءً، وإنما وهم جميل سرعان ما ينكشف
ولعل أجمل ما يمكن أن نختم به هو أن نحفظ قلوبنا كأمانة غالية، فلا نضعها إلا عند من يعرف قيمتها، ولا نستهلكها إلا في حب يستحق أن نُعطيه من أعمارنا دون ندم. لأن أعظم انتصار للنفس أن تحب بوعي، وأن تمنح بمقدار، وأن تعرف متى تقول: “كفى… قلبي أثمن من أن يُستهلك فيما لا يستحق
إن أعظم خسارة يمكن أن يعيشها الإنسان ليست خسارة المال، ولا ضياع الفرص، بل هي استنزاف القلب حتى يجف من فرط العطاء لمن لم يقدّر. فالمشاعر حين تُستهلك في غير موضعها، لا تعود كما كانت؛ لأنها مثل الماء العذب إذا أُريق على أرضٍ سبخة لا تُنبت، صار هدرًا لا ثمرة له
الحياة قصيرة، وقلوبنا محدودة الطاقة، فلا تُهدرها على من يراك خيارًا بينما تراه أنت وطنًا. ولا تعطِ حبك لمن يضعك في آخر قائمة أولوياته، بينما تجعل منه أنت أول وأهم صفحة في كتاب عمرك. فالمعادلة غير العادلة لا تنتهي إلا بانكسارٍ يسرق السلام من داخلك.
الحب ليس لعبة مساومة، ولا مشهد بطولة من طرف واحد، بل هو التقاء روحين في منتصف الطريق، يتقاسمان الأفراح كما يتقاسمان الأعباء. ومن يستهلك مشاعرك بلا وعي أو تقدير، لا يستحق أن يُسمى حبيبًا، بل هو عابر طريق أضاع وقتك وترك ندبة في قلبك
فلنكن شجعانًا في الحب كما نحن في الحياة؛ شجعانًا في أن نمنح بوعي، وأن نُمسك قلوبنا حين نرى أنها تُستنزف، وأن نرحل بسلام حين ندرك أن البقاء لم يعد إلا نزيفًا. إن أعظم شرف للقلب أن يبقى نقيًا، حتى بعد الخذلان. وأعظم انتصار للنفس أن تحافظ على إشراقتها، حتى بعد أن أطفأها الآخرون.
فلنتذكر دائمًا: القلب أمانة، والمشاعر طاقة، والحياة قصيرة… فلا تتركها تستهلك فيما لا يستحق