اشرف محمدين يكتب:-فليرحل من يريد الرحيل — لن تتوقف الشمس عن الشروق، ولن تتوقف قلوبنا عن النبض.
في لحظةٍ ما، يتكشّف لنا جوهر العلاقات البشرية بلا تجميل: هناك من يختار أن يبقى، وهناك من يختار أن يرحل. والوجع لا يأتي من الرحيل ذاته، بل من وهمٍ قديم زرعناه في أرواحنا بأن بقاء الآخر شرطٌ لاستمرار الحياة. نُفاجأ بأن الذين ملأونا حضورًا يستطيعون فجأة أن يتحولوا إلى فراغ، وأن الذين أقنعونا أنهم العوض الأخير يغادرون كأنهم لم يكونوا يومًا. فتتلوى الروح تحت الخذلان، وتختبر قسوة الفقد، وتكتشف أن بعض الرحيل يشبه انتزاع ضلع من الجسد: لا يموت الجسد… لكنه يتألم طويلًا.
ومع ذلك، فالحقيقة الأعمق من كل الوجوه القادمة والراحلة أن الحياة — في جوهرها — لا تربط مصيرها برغبة أحد. الشمس لا تسأل من سيبقى كي تشرق له، والنبض لا يتوقف احترامًا لغياب أحد. الكون لا يُجامل قلوبنا، ولا يُؤجل دورته من أجل دمعة نزلت أو وعدٍ انكسر. كل شيء يمضي في مساره، ومع الوقت نتعلم نحن أيضًا أن نمضي… ولو بجرح.
ليس المطلوب أن لا نتألم، بل أن لا نسلم قياد حياتنا لوجعٍ صنعه قرار غيرنا. أن نمنح أنفسنا حق الحزن — نعم — ولكن لا نمنح ذلك الحزن حق الإدارة. فلتغادر من شاءت نفسه الرحيل؛ لكن ليبقَ يقيننا أن رحيله لا يعني النهاية، بل يعني بداية أخرى: مساحة فارغة قد يملؤها رزق جديد، أو درس جديد، أو اتساع داخلي يجعلنا أكثر نضجًا مما كنا.
الذين يرحلون لا يأخذون معهم الشمس، لا يأخذون الربيع، لا يأخذون الهواء، ولا يسحبون من صدورنا القدرة على البدء من جديد. نحن أقوى مما نظن، فقط لأن الله لم يجعل الأمل رهينة يد بشر، ولا جعل النور مربوطًا بباب أحد.
فليرحل من يريد الرحيل… تمضي الحياة، ويُرمم الزمن كسورنا ببطء. ستشرق الشمس غدًا، وسيعود القلب لينبض كما لو أنه خُلق اليوم، ومع كل نبضة جديدة ستولد نسخة أقوى وأصفى مما سبق — نسخة تعلمت أن الفقد لا يقتل، وأن الامتلاك ليس ضمانًا، وأن النجاة الحقيقية تبدأ حين لا نعلق مصائرنا بالبشر
في النهاية، ما يبقى ليس أسماء الذين رحلوا، ولا تفاصيل المشاجرات، ولا الأسئلة التي لم نتلقَّ لها جوابًا… ما يبقى هو شكلنا بعد الألم: هل خرجنا منه أصغر أم أكبر؟ أضعف أم أقوى؟ أكثر حقدًا أم أكثر نقاء؟
إن أخطر ما يفعله الفقد في الإنسان أنه يضعه أمام نفسه عاريًا بلا أقنعة. هنا تُختبر الكرامة، ويُختبر الإيمان، ويُختبر المعنى. فإما أن نختار أن نحيا أسرى لمن غادر، فنُعطل أعمارنا احترامًا لغيابٍ لم يحترم بقاءنا… وإما أن نمد أيدينا إلى الله، ونأخذ منه المعنى الذي لا يُخيب، ونكمل الطريق حتى وإن ثقلَت خطواتنا من كثرة الوجع.
الذين يرحلون يعتقدون — بقصد أو دون قصد — أنهم تركوا فينا فراغًا لا يُملأ. لكن الحياة تُعلّمنا بمرور الوقت أن الفراغات ليست مصيبة… بل أحيانًا نعمة. فالله لا يفرغ شيئًا إلا ليملأه بخير أكبر، ولا ينزع شخصًا إلا لأنه رأى ما لا نرى، ولا يكتب الفقد إلا لأنه يمهد لمساحة ستُعمر بما يليق.
تذكّر دائمًا: العالم لا يتوقف حين يدير أحدهم ظهره. والروح التي تنكسر اليوم… ستنهض يومًا ما وهي أعرف بنفسها، وأشد صلابة، وأكثر قدرة على اختيار من يستحق أن يُسمح له بالبقاء.
فليذهب من أراد الذهاب، لن نركض خلف من رأى بقاءنا عبئًا. نحن لا نتوسل الوجود في حياة أحد، ولا نرهن قيمتنا بحضور بشر يملكون حرية المزاج.
نمضي… لا لأننا لا نتألم، بل لأننا نرفض أن يصبح الوجع دينًا مقيمًا في صدورنا. نمضي لأن الحياة لا تقف احترامًا لأحد، ولأن شمس الغد ستشرق سواءً وقف معنا بشر… أو وقفنا وحدنا.
ومع مرور الوقت، نكتشف أن أثقل ما نحمله ليس رحيل الأشخاص، بل الفكرة التي عشنا عليها سنوات: فكرة أن بقاءهم جزء من سلامنا الداخلي، وأن وجودهم ضرورة لاستمرارنا. وحين ينكشف الوهم، نُدرك أن السلام الذي ينهار بغياب بشر… لم يكن سلامًا من البداية، بل كان تعلقًا متنكرًا في صورة حب.
الذين يرحلون لا يقطعون الطريق علينا، هم فقط يغيرون اتجاهنا. قد يفرغون مساحة موجعة في أرواحنا، لكن تلك المساحة نفسها تتحول مع الوقت إلى نافذة يدخل منها نور جديد، وفكرة جديدة، ونضج لم نكن لنملكه لولا هذا الوجع. فما خسرناه في الأشخاص، نكسبه في أنفسنا. وما فقدناه من حضور، نعوضه بمعرفة أعمق بمن نستحق أن نكون.
والأجمل أن الحياة، بقسوتها ورحمتها معًا، تُربّينا على أن نُقسم ولاءنا لله فقط، لا للناس. فالبشر يتبدلون، يتعبون، يتغيرون، ينقلبون، يخذلون أو يُخذلون، بينما الله وحده يرممنا كلما انكسرنا، ويجبرنا كلما انطفأنا، ويلطف بنا حين تتعرى أرواحنا من كل سندٍ بشري.
لا تجعل رحيل أحد هو سبب انهيارك، واجعل من نجاتك بعده سبب قوتك. لا تمنح أحدًا سلطة إنهاءك، ولا تسمح لذاكرتك أن تعبد الغائبين. امشِ إلى الأمام ولو ببطء، فالعالم لم يخلق ليُدار من نافذة واحدة، ولا قدر الإنسان أن يُدفن داخل خسارة واحدة.
تذكّر دائمًا:
الغياب لا يُميت… الذي يُميت هو أن نظل واقفين عند باب لم يعد وراءه أحد.
والألم لا يقتل… الذي يقتل هو الإقامة الطويلة داخله بلا محاولة خروج.
والفقد لا يُنهي العمر… الذي ينهيه هو أن نظن أن أعمارنا كانت ملكًا لمن رحلوا.
فليذهب من شاء الذهاب — يبقى الله، ويبقى الأمل، وتبقى على الأرض آلاف الأبواب التي لم تُطرق بعد. وما دام في الصدر نبض، وفي السماء رب، فإن ما مضى كان تمهيدًا…لا ختاما










