اشرف محمدين يكتب:-القلوب الراقية – وجع لا يُرى ونبل لا يُكافأ
 
	 
	
في هذا العالم المتسارع الذي تسيطر عليه الماديات، وتنطفئ فيه لغة المشاعر الحقيقية، تمضي القلوب الراقية في هدوء يشبه العطر، لا يُرى لكنه يترك أثرًا عميقًا في الروح قبل أن يلمسه الجسد. تمشي تلك القلوب بين الناس بحنوٍّ خالص ووجهٍ باسم رغم الجراح، تحتضن الجميع بطيب نواياها وتمسح الألم عن من حولها دون أن تفكر في نفسها، وتبذل العطاء كما يتنفس المرء الهواء، بلا انتظار ولا حساب. هي قلوب نُسجت من ضوء، لا تؤذي ولا تفضح، لا ترفع صوتًا ولا تردّ الإساءة، بل تتلقى الصفعات بابتسامة محمّلة بالألم، وتكتم نزفها كي لا تُربك من حولها، فتتحمّل ما لا يُحتمل وتصبر على ما لا يُطاق لأن الرقيّ فيها لا يعرف السقوط ولا يتلوث مهما كان حجم الغدر أو قسوة الظروف.
هذه القلوب تُظلم من أقرب الناس إليها، لأنها لا تجيد التبرير ولا تحسن الدفاع عن نفسها، وتكتفي بالصمت حين تُساء الفَهم، وتنسحب حين يُساء الظن بها، وتكتفي بنظرة تسامح في وقتٍ يتبارى فيه الآخرون على تسجيل الانتصارات بالكلمات. تُضغط لأنها لا تشتكي ولا تطلب ولا تلوم، وحتى حين تنكسر، تُلملم شتاتها في زاوية بعيدة وتبتسم ليبقى مَن حولها مطمئنًا، غير مدركين أن تلك الابتسامة ما هي إلا جدار رقيق يخفي خلفه طوفانًا من الألم. هم لا يعلمون كم مرة بكت هذه القلوب في الخفاء، ولا كم من الليالي مرّت وهي تحتضن وجعها بصمت، تخبئه كي لا تُثقل به أحدًا، وكأنها وُجدت لتحمل آلام العالم دون أن تترك لأحد فرصة مشاركتها أوجاعها.
في زمنٍ يُكافأ فيه الصوت العالي ويُهاجم الصامتون، أصبحت الطيبة تُهمة والرُقيّ ضعفًا والحنان مبالغة، وصار من يسامح يُتهم بأنه بلا كرامة، بينما الحقيقة أن كرامة القلب الراقي في صمته، وعظمته في عفوه، وسموّه في قدرته على الاستمرار في العطاء رغم الألم. لا شيء يُرهق القلب الراقي أكثر من أن يُساء فهمه أو يُساء تقديره أو يُخذل من مَن أحبهم بصدق. هو يعطي من قلبه ولا ينتظر ردًا، يحسن الظن ولا يحقد، يعانق الخطأ بنية الإصلاح لا الهدم، وحين يُخذل لا ينتقم بل يتوارى بهدوء ويكتفي بالدعاء، وكأن طهارته تحميه من أن يتحول إلى صورة أخرى من القسوة التي رآها.
القلوب الراقية ليست مثالية، لكنها أنقى من أن تُشوّه أحدًا أو تُدين أحدًا أو تُعلن انتقامها. هي تُضيء لمن حولها حتى في عتمتها، وتُسند الآخرين وهي تُعاني الانكسار. وهي حين تنكسر، تنكسر نبيلًا، بلا ضجيج، بلا لوم، بلا رسائل عتاب طويلة، فقط تُغلق أبوابها بلطف وتترك في القلب الآخر ألف سؤال لا جواب له. ربما يدرك الآخرون متأخرًا كم كانت عظيمة تلك القلوب، لكن حينها سيكون الغياب أثقل من أي ندم.
لا أحد يشعر حقًا بما تُخفيه هذه القلوب خلف ابتسامتها، ولا أحد يتخيل كم مرة قالت “لا بأس” وهي تتمنى فقط من يحتضن تعبها. لا أحد يقدّر كم مرة ابتلعت كلماتها كي لا تجرح، وكم من المواقف خرجت منها بأقل الكلمات وأكثر الألم. ومع ذلك، فإن أجمل ما في هذه القلوب أنها لا تتغيّر، تُرهق لكنها لا تُرهق أحدًا، تتعب لكنها لا تُتعب أحدًا، تحزن لكنها لا تزرع الحزن في غيرها. تبقى كما هي: شامخة، راقية، خفيفة على الناس، ثقيلة على المواقف، عميقة في الإحساس، نقية في النيّة.
لأن الرُقيّ ليس تصنعًا بل فطرة، والطيبة ليست ضعفًا بل خيارًا، فإن هذه القلوب تختار السلام الداخلي على الانتصار الخارجي، وتختار الحفاظ على جوهرها مهما كانت الخسائر. وفي نهاية الأمر، هي لا تطلب الكثير، فقط بعض الفهم، بعض الاحتواء، بعض التقدير الصادق. لكنها حتى إن لم تجده، لا تحقد، ولا تتغير، بل تزداد صفاءً كأنما الألم يُطهرها ويمنحها بعدًا إنسانيًا لا يملكه سواها.
إنها القلوب التي، إن أحبّت، أحبّت بصدق، وإن ابتعدت، غادرت بأناقة، وإن سامحت، سامحت من القلب. فلا تعبثوا بها ولا تظلموها، لأنها وإن لم تشتكِ، فإن جرحها موجع، وصمتها عميق، وغيابها لا يُعوّض. وما أغلى أن تجد قلبًا راقيًا في زمنٍ يبيع القلوب بثمن بخس ويشتري المشاعر بعملة مزيفة. والحقيقة أن القلوب الراقية حين تغيب، لا تترك وراءها فراغًا عاديًا، بل تترك صدى حضورها في كل زاوية مرّت بها، وفي كل روح لامستها بلطفها وصبرها. وحين تدرك قيمتها، تدرك معها أن ندرتها هي سرّ ألمها وسرّ عظمتها في آن واحد. فهي تعلم أن العالم لن يتوقف كي يواسيها، لكنها لا تتوقف عن أن تمنح العالم شيئًا من دفئها. إنها أشبه بزهرة تنمو في صخر، لا يسقيها أحد، لكنها تظل تزين المكان. وإن كان الوجع رفيق دربها، فإن الرضا حارس بوابتها، والإيمان بكرم الله ملاذها الأخير. ولعل أجمل ما يمكن أن نفعله تجاه هذه القلوب، إن حالفنا الحظ واقتربنا منها، هو أن نحافظ عليها كما نحافظ على كنز لا يُقدّر بثمن، وأن نمنحها من الاحتواء ما تستحقه، لأن خسارتها ليست خسارة شخص… بل خسارة عالم كامل من النقاء.
الختام:
وحين تنتهي الحكاية، لا تُغلق القلوب الراقية الأبواب بغضب، بل تغلقها برقيّ. لا تُمارس التجريح، ولا تبحث عن الانتقام، لأنها تعلم أن الكلمة القاسية جرحٌ لا يُشفى، وأن الكرامة لا تُسترد بالصوت العالي بل بالانسحاب الهادئ. تمضي كما جاءت… بهدوءٍ نبيل، كأنها تُلقي السلام الأخير على روحٍ لم تعرف كيف تحتفظ بها.
ترحل هذه القلوب لا لأنها ضعفت، بل لأنها أدركت أن البقاء وسط القسوة استنزاف، وأن الصمت أحيانًا أبلغ من ألف عتاب. تمشي بخطا ثابتة، تحمل في داخلها بقايا وجع لم تبح به، وتترك خلفها عبيرًا من الذكريات الجميلة التي ترفض أن تلوّثها بالمرارة.
وحين ترحل، لا تعود. لأنها تعرف أن من لم يفهم نقاءها في الحضور، لن يقدّر عمقها في الغياب. تمضي نحو سلامها الداخلي، نحو حياة لا يُسكنها الوجع، نحو يقينٍ بأن الله لا يخذل من أحب بصدق، ولا يترك قلبًا راقيًا إلا ويُكرمه بطمأنينةٍ تعوّضه عن كل خذلان.
هكذا تمضي القلوب الراقية… لا تحمل كراهية، ولا تترك شتائم، فقط تترك خلفها درسًا لا يُنسى: أن الرقيّ ليس ضعفًا، وأن الرحيل بصمتٍ أحيانًا هو قمّة القوة، وأن الذين يرحلون في هدوء… لا يعودون أبدًا، لأنهم ببساطة أرقى من أن يُعيدهم وجع










