اشرف محمدين يكتب:-من استباح وجعك لا يستحق دقيقة من وقتك ولا نبضة من قلبك


في حياة كلٍّ منّا أشخاص تركوا وراءهم ندوبًا لا تُرى، لكن أثرها في القلب أعمق من أي جرح ظاهر. أشخاصٌ اقتربوا يومًا بدعوى الحب، أو الصداقة، أو الرفقة، ثم حين كشفوا حقيقتهم، اكتشفنا أنهم لم يقتربوا إلا ليختبروا مدى احتمالنا للألم. هؤلاء لا يستحقون أن نهدر فيهم ثانية من عمرٍ، ولا أن نحملهم معنا في ذاكرتنا بعد أن غادروا. فالحياة أقصر من أن تُمنح لمن استباح وجعنا ببرودٍ أو استخفاف.
من يستبيح وجعك هو من يراك تتألم ولا يمد يده، من يراك تنكسر ولا يحنو، من يسمع وجعك ولا يقترب، أو يقترب فقط ليزيدك وجعًا تحت شعار “أنا صادق معك”. لا، هذا ليس صدقًا، بل قسوة متنكرة في ثوب الواقعية. الصدق الحقيقي هو أن تكون رحيمًا، أن تختار كلماتك حين تعلم أن الطرف الآخر هشّ، أن تضع ألم غيرك في حساباتك قبل أن تنطق أو ترحل.
الذين يجرحون ثم يمضون وكأن شيئًا لم يكن، لا يدركون أن الزمن لا يشفي وحده، وأن بعض الوجع يترك في القلب طبقة من البرد، تمنعنا من الثقة مجددًا بسهولة. لكننا حين ندرك أن قسوتهم كانت درسًا لا عقوبة، نبدأ رحلة التعافي الحقيقية. فالتعافي لا يبدأ حين يعتذرون، بل حين نكفّ نحن عن انتظارهم.
احترام القلب لا يكون فقط في الحب، بل في كيفية الرحيل أيضًا. من يعرف قيمة من أحبّه لا يرحل بلا وداع، ولا يترك وراءه غبار الحيرة، ولا يجعل الآخر يبحث عن تفسيرٍ في العدم. لذلك، إن رحل أحدهم دون أن يلتفت، فليذهب بسلام. ليس علينا أن نغضب أو ننتقم، لأننا ببساطة أكبر من أن ننحدر إلى مستوى من استهان بوجعنا.
القسوة الحقيقية ليست في الفعل، بل في اللامبالاة. حين يُختبر الإنسان في لحظة ضعفك ويختار أن يمرّ بجانبك وكأنك لا تُرى، هنا فقط تسقط قيمته. لأنّ الإنسانية تُقاس بالحنان، لا بالكلام المنمق. والنبض الذي لم يتأثر لألمك، لا يستحق أن يتشارك معك نبضك.
في الحب، كما في الحياة، هناك لحظات تُعرّي الناس. لحظة الضعف، لحظة الخوف، لحظة الحيرة. من يبقى وقتها، ولو بصمتٍ، هو الصادق. أما من يختفي حين تحتاجه، فلا تلتمس له الأعذار، لأن الغياب في وقت الحاجة خيانة، مهما غُلّفت بأسبابٍ منمقة.
لا تمنح من أوجعك رفاهية البقاء في ذاكرتك. لا تُكرمه بالتفكير فيه، ولا تلوّث صفاءك بالأسئلة التي لن تجد لها إجابة. ليس كل ما يُكسر يستحق الإصلاح، ولا كل من غادر يستحق الانتظار. هناك من يرحل لأنّ الله أراد أن يُخفف عنك، لا ليؤلمك. فبعض الرحيل رحمة، وإن بدا وجعًا في بدايته.
القلب الذي أعطى بصدق، لا يجب أن يندم. لأن الصدق لا يُخطئ، حتى لو اختار الشخص الخطأ. لا تندم على من أحببت بصفاء، بل اشكر الله أنك ما زلت قادرًا على الحب رغم ما حدث. أن تظلّ قادرًا على النقاء بعد الخذلان هو أعظم انتصار يمكن أن تحققه على من استباح وجعك.
ولا تنسي أن أجمل ما في الألم أنه يُعلّمك حدودك. يُعلّمك أن الكرامة ليست ترفًا، بل درعًا تحمي به نفسك من الانكسار المتكرر. وأن الصبر لا يعني التسامح مع الإهانة، بل الهدوء وأنت تُغلق الباب خلفك دون ضجيج.
من استباح وجعك لا يستحق دقيقة من وقتك، لأن الوقت طاقة، والطاقة حياة. ولا نبضة من قلبك، لأن القلب لا يُمنح إلا لمن يعرف قيمته. في النهاية، حين تُشفى، ستضحك على كم كنت تمنح اهتمامًا لمن لا يستحق النظر. وستدرك أن الله حين سلبك من أوجعك، كان يُنقذك لا يُعاقبك.
فلتغلق الأبواب التي تؤلمك بثقة، ولتفتح قلبك لما سيأتي دون خوف. فالحياة لا تنتهي عند خيبة، بل تبدأ بعدها. والذين صدقوا في حبّك لن يُوجِعوك، ومن أوجعك لم يكن يومًا يستحقك.
ابتسم… لأنك تعلمت، ولأنك خرجت من المعركة بقلبٍ أنقى، لا بأثرٍ أعمق
وفي نهاية المطاف، تكتشف أن الحياة لا تعطيك دائمًا ما تتمنى، لكنها تمنحك ما تحتاج لتتعلم. فليس كل من أحببت كان يستحق قلبك، وليس كل من خذلك كان شريرًا بالضرورة. أحيانًا تأتي الخيبات في ثياب المعلمين، والخذلان في دور الطبيب الذي يفتح جرحك ليشفيه لا ليؤذيك.
من استباح وجعك لا يليق أن يبقى في مساحتك، لأن البقاء امتياز، لا يُمنح إلا لمن صانك ولم يكسرك. لا تُطِل الوقوف أمام الأبواب المغلقة، ولا تبحث عن النور في قلوب أطفأتك عمدًا. دعهم وشأنهم، فكل نفسٍ تُعامَل بما تستحق، وكل وجعٍ تتركه خلفك يصبح خطوة نحو عافية جديدة.
اغفر إن استطعت، لكن لا تعد إلى ذات الدائرة. فالغفران لا يعني السماح بتكرار الأذى، بل هو أن تحرر نفسك من عبء الكراهية. كن رقيقًا مع ذاتك، كما كنت يومًا كريمًا مع من خذلك، لأنك الأجدر بالرحمة والسكينة.
وفي لحظة صدق، ستكتشف أنك لم تخسر إلا من لم يكن يومًا لك، وأن أجمل انتقام من وجعك القديم هو أن تبتسم بقلب مطمئن، وتمضي بثقة نحو غدٍ لا مكان فيه لمن استباح وجعك…
فمن لا يعرف قيمة وجودك، لا يستحق حتى غيابك