أشرف محمدين يكتب.. العتاب كالحب – لا يُمنح إلا لمن يستحق


في زمنٍ باتت فيه العلاقات سريعة الزوال، والقلوب هشّة، والمشاعر تتبخر قبل أن تنضج، يظل العتاب حالة وجدانية راقية لا يقدرها إلا من عرف قيمة الود، وأدرك عمق المحبة. العتاب ليس ضعفًا، بل هو أعلى مراتب الاهتمام، هو رسالة غير منطوقة تقول: “ما زلت أعني لك شيئًا”، “ما زلت أرجو منك أن تفهمني”، “ما زالت العلاقة بيننا تستحق المحاولة”. فنحن لا نعاتب من نكره، بل من نحب ونرجو بقاؤه في حياتنا، لا من نستعد لنسيانه. فالعتاب لا يُعطى إلا لمن يسكن القلب، ولا يُقال إلا لمن لا نطيق أن نخسره بصمت.
ومع ذلك، للعتاب حدود وشروط وكرامة. فالقلوب التي تُرهقها الخيبات تصبح عاجزة عن شرح نفسها كل مرة، والكلمات مهما كانت بليغة تفقد قيمتها حين لا تجد من يسمعها بقلبه، لا بأذنه فقط. نحن نعاتب لأننا لا نريد أن تُبنى بيننا جدران من الصمت والتأويل، نعاتب لأننا نريد أن نُفسّر، ونُشرح، ونُرمم لا أن نهدم، نعاتب لأننا نبحث عن علاقة صحية يسكنها الفهم، لا التخمين، ولأننا لا نحمل في قلوبنا سوى نية الاستمرار، لا نية الهروب.
العتاب إذًا ليس ترفًا في العلاقات بل ضرورة، لكنه لا يُمنح لكل الناس. لأن هناك من لا يستحق حتى أن نسأله: “لماذا؟” فالإجابة معروفة، والخيبة تكررت بما يكفي. متى نصمت بدل أن نعاتب؟ حين يتحول العتاب إلى صراع، حين لا نجد إصغاءً بل اتهامًا، حين يصبح اهتمامنا عبئًا، ومشاعرنا ورقة يُساوم عليها الآخر. في تلك اللحظة، يصبح الصمت لغة العقل، ويصبح الانسحاب فعل احترام للنفس.
في العلاقات الزوجية، يُصبح العتاب امتحانًا حقيقيًا لقيمة العلاقة. الزوجان ليسا خصمين، بل شريكان في رحلة طويلة، وحين يعتب أحدهما، فهو لا يهاجم بل يستغيث، يطلب فهمًا واحتواءً ويدًا تربت على قلبه المنكسر. فإذا قوبل هذا العتاب بالاستهزاء أو التهرب أو الإهمال، فذلك شرخ في جدار الأمان لا تداويه الأعذار الباردة. الزوج الذي لا يُنصت لزوجته حين تُعاتبه، يقتل فيها الشغف والأمان والصدق. والزوجة التي لا تُقدّر عتاب زوجها، تفقد فرصة لصيانة الحب قبل أن يذبل. فالعتاب مسؤولية متبادلة، يتطلب من الطرف المُعاتب أن يختار كلماته بحب لا بهجوم، ومن الطرف الآخر أن يسمع بقلبه لا بكبريائه. لأننا لا نُعاتب كي ننتصر، بل كي نلتقي في منتصف المسافة، فالقلوب ليست ساحات حرب، بل مواطن راحة.
اقرأ أيضاً
انفصالات مدوّية تهز عالم المشاهير في 2025: الحب لا يكفي أحيانًا
د. غادة فتحي الدجوي تكتب.. سلسلة مقالات ”الفنّ يغيّرك – من الداخل للخارج”
النصب باسم الحب.. سجن صينى 13 عاما لاستيلائه على 280 ألف دولار من زوجاته
أشرف محمدين يكتب.. الغيرة بين الأزواج في النجاح في العمل - بين الهدم والبناء
”عشائر غزة”: شعبنا يحمل الحب والتقدير لمصر والرئيس السيسي
د. غادة فتحي الدجوي تكتب.. رحلة في فنون التدريب
أشرف محمدين يكتب.. مصر - الأرض التي تجري في عروقها الحضارة
أحمد عادل: سعيد بتعاونى الرابع مع نانسى عجرم فى ”لغة الحب”
اشرف محمدين يكتب:-حين يصمت الكلام تبدأ النهاية في بيت الزوجية
هندى يستعرض مراحل الحب السبعة بتصميمات 3D بأسبوع الموضة بباريس.. صور
أشرف محمدين يكتب.. الانتقاد المستمر في الحياة الزوجية - حين يتحوّل الحب إلى معركة خاسرة!
باحثون: الوشم المحتوى على الحبر الأحمر يسبب الإصابة بسرطان الغدد الليمفاوية
من لا يقدّر العتاب لا يستحق الحب. من يستصغر عتابك لا يفهم حجمك في قلبه، ومن يدير لك ظهره كلما حزنت لا يستحق أن يراك تبتسم، ومن يستخف بمشاعرك لا يعرف معنى الشراكة. العتاب ليس دليل ضعف بل دليل صدق، ولذلك لا يُمنح إلا لنفوس راقية تُقدّر الكلمة، وتحتوي الضعف، وتُجيد الإصغاء دون أن تنتقص.
لا يجب أن تُعاتب كل من يؤلمك، ولا تفتح قلبك لكل من طرق بابه. العتاب غالٍ، والحب أرقى، والكرامة تاج لا يليق إلا بمن لا يُساوم. امنح عتابك فقط لمن يعرف قيمته، ولا تُصرّ على أن يسمعك من لا يريد أن يفهمك. فالعلاقات تُختبر عند أول خلاف… إما أن تُزيدنا قربًا، أو تكون نهاية لباب ما كان يجب أن يُفتح من البداية.
غير أن العتاب لا يقف عند حدود الحب أو الزواج، بل يمتد ليكون مقياسًا للإنسانية في مختلف العلاقات. في الصداقات الحقيقية، يكون العتاب أداة لإصلاح الخلل قبل أن يتفاقم، وجسرًا لإعادة القلوب إلى ضفاف الأمان. الصديق الذي يقبل عتابك بصدر رحب هو الذي يدرك أن صداقتك أغلى من لحظة غضب، وأن صمتك عنه يعني خسارة لا تعوض. أما في بيئات العمل، فقد يكون العتاب وسيلة للحفاظ على التعاون والاحترام المتبادل، شرط أن يُمارس بلباقة، وأن يهدف إلى البناء لا الهدم.
العتاب أيضًا يحمل بعدًا نفسيًا عميقًا، فهو يُخرج ما تراكم في الداخل قبل أن يتحول إلى جليد يعزلنا عن الآخرين. الإنسان بطبعه يحتاج إلى من يسمعه ويتفهمه، وحين لا يجد ذلك، يتضاعف شعوره بالوحدة. لكن، إذا فُتح باب العتاب مع الشخص الخطأ، تحوّل إلى باب أذى جديد. لذلك، من الحكمة أن نمنح كلماتنا لمن يملك قلبًا يستوعبها، لا أذنًا تسجّلها فقط.
المجتمعات التي تتقن فن العتاب الراقي هي مجتمعات أكثر تماسكًا، لأن العتاب فيها يصبح وسيلة لتصحيح المسار، لا لتبادل الاتهامات. في ثقافتنا العربية، ظل العتاب جزءًا من الشعر والأدب والموروث الشعبي، علامة على أن العلاقات التي تستحق تُصان بالكلمة، وأن البوح أهم من الكتمان.
إن العتاب، في جوهره، فعل حب مغلف بجرأة، وصوت الروح حين يرفض الفتور والصمت. هو المسافة القصيرة بين الجرح والمصالحة، بين الفقد والبقاء. لكنه، مثل كل ما هو ثمين، يجب أن يُقدَّم بحكمة، وألا يُهدر في أرض قاحلة.
فلتمنح عتابك بقدر حبك، ولتُصن قلبك كما تصون كرامتك، ولتذكر دائمًا أن من يستحق العتاب هو من لا تستطيع أن تتخيل حياتك بدونه، أما من استهان بقلبك فالصمت أمامه ابلغ من الف كلمة وفي نهاية المطاف، يبقى العتاب فنًّا راقيًا لا يتقنه إلا من يعرف قيمة من أمامه، فليس كل من أخطأ في حقك يستحق أن تفتح له قلبك وتسمح له بالاقتراب مجددًا، لكن من نحبه حقًا، نعاتبه لأننا نريد الاحتفاظ به. العتاب ليس إدانة، بل فرصة للتصحيح، وإشارة بأن ما بيننا ما زال يستحق أن نحافظ عليه.
فالحياة قصيرة، والمشاعر أثمن من أن ندفنها في صمت أو ندفنها تحت ركام الجفاء. إذا أحببت… فقل، وإذا حزنت… فعاتب، وإذا سامحت… فافعل ذلك بصدق، لأن القلب الذي يصفو بعد العتاب هو قلب أقوى وأصدق.
دع العتاب جسرًا يعبر بك وبمن تحب من ضفة الخلاف إلى ضفة الألفة، فهناك على الضفة الأخرى يسكن السلام، وتعيش المودة، وتنتعش الروح. وعندها فقط، تدرك أن العتاب لم يكن ضعفًا، بل كان شجاعة، وأن الصمت لم يكن حكمة، بل كان جفاء، وأن الكلام الذي خرج من القلب… كان سببًا في أن تبقى القلوب على عهدها، مهما تعاقبت الأيام و تبدلت الظروف